لم يحالفها الحظ للالتحاق بالجامعة، اختارت الاعتماد على نفسها ودخول سوق العمل منذ الصغر، عملت في البداية كموظفة استقبال ثم تدرَّجت وظيفيًا، وفي عام 2015 استقرت في شركة (رؤية الشباب).
شغلت رحمة آدم الشابة العُمانية منصب مديرة المشاريع وأسّست قسم الموارد البشرية، وحينما شعرت أنها أعطت كل مالديها لهذه الشركة على مدار سبع سنوات راحت تبحث عن فرصة جديدة، لتجد شركة ناشئة تدعى (رِحال) للتحوّل الرقمي تعمل بها حاليًا أخصائية استدامة ومسؤولة عن البرامج المقدَّمة للشباب فيها وكذلك قسم وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت تلك حياة رحمة الحافلة والمليئة بالحيوية والحركة، شعرت بالإرهاق قليلًا، ثم زاد التعب فأرهقها، فاضطرت لأخذ الرأي الطبي الذي جاء بضرورة إنقاص وزنها، ففعلت، واختفت الأعراض المتمثلة في تنميل القدمين وعدم الشعور بهما، تقول لبلقيس: "كنتُ في هذا الوقت متطوعة في جامع السلطان قابوس الأكبر في مركز التعريف بالإسلام، وكُنّا نطوف بالسُياحِ في جولاتٍ داخل الجامع، كنتُ كثيرًا ما أفقد الإحساس بقدمي وأفقد معه حذائي، في صيف عُمان الحار الذي تصل فيه درجة الحرارة إلى 50 مئوية، ومع ذلك كنتُ لا أشعر بسخونة الأرض من تحتي".
زارت الطبيب مرة أخرى فأعاد الإجابة وأضاف ممارسة الرياضة، فاختفتْ الأعراض بالكامل، إلا أنه في رمضان 2016 زاد الخدر في قدمها اليمنى التي فقدت الاتصال تمامًا مع جسدها واضطرت أن تسحبها أثناء المشي في ساحة الرياضة.
ومع كل استشارة طبية تعود صفرًا، والأعراض تعود مرارًا وتكرارًا حتى وصل الخدر للقدم اليسرى أيضًا، ثم بدأت ترى نقطة بيضاء بشكل دائم، فقام الطبيب بتغيير النظارة ولم يكتشف أنّه ضرر في العصب البصري وليس ضعفًا في النَظر!
ظلَّ تشخيص رحمة ظاهريًا لمدة ثلاث سنوات من الآلام المتقطعة والمتعددة في أعضائها، تُكمل الحديث: "خرجتُ يومًا مع أخوتي للتسوق، وإذ فجأة توقف نظام جسدي تمامًا فما عدتُ أستطيع الحركة، جلستُ لأستريح وعاودتُ المشي، ثم توقف جسدي عن الحركة مرة ثانية.. فقررت بعدها مواجهة مخاوفي والذهاب في نهاية عام 2018 إلى المركز الطبي وطلب تحويل لمستشفى متخصص، أردتُ فقط أن أعلم ما بي مهما كانت صعوبته، فقط لأستريح".
وبالفعل تمّ التحويل لطبيبة الأعصاب: "قالت لي أنا أصدقكِ وأعلم أن بكِ خطبٌ ما، علينا فقط أن ننتظر نتائج الفحص وسأكون بجانبكِ، لازلت أذكر تلك الطبيبة بكل خير في مجالسي، لأنها طمأنتني وصدقتني فأنا أعاني من 2015 إلى 2018 و لم يصدق الأطباء آلامي، لدرجة أن إحدى الطبيبات قالت لي قد تكون تلك هي مشيتكِ منذ أن خُلقتي! لأنني كنت أفقد توازني أيضًا عند المشي".
خلال الثلاث سنوات بحثت رحمة كثيرًا عن الأمراض المماثلة لأعراضها، وشكَّت بأنه مرض التصلّب المتعدد، لذا يوم استلام نتيجة الفحص، كانت رحمة تجلس في غرفة الانتظار في المستشفى وراحت تكتب رسالة لأهلها وصديقاتها المقربات، بأنها تعاني مرضََا يدعى التصلّب المتعدد - مرض مناعي يصيب الأعصاب فيتلفها أو يحدث ضررًا بها، ونسبة إصابة النساء به أعلى من الرجال وتأثيره الأغلب على الحركة فتُفْقَد كليًا أو جزئيًا - وطلبت منهم أن يطمئنوا وألّا يجزعوا، وماهي إلا لحظات حتى استدعاها الطبيب وأكد شكوكها، فحمدتِ الله لأنها علمت أخيرًا أن كل آلامها كانت لسبب.
أرسلت رحمة الرسالة لتختار بها مجموعة الدعم المقرَّبة لها، لم ترغب أن تشارك أحدًا خارج هذه الدائرة لمدة ثمانية أشهر، فقد كانت بحاجة أن تلملم شَتات نفسها وتقوَّي مناعة ذاتها التي تغيَّرت بسبب مرضها المناعي؛ "كنتُ على صواب، فحينما بدأ الناس يعلمون بأن مرضي سبّب لي الإعاقة، قالوا لي إنسي العمل والحياة الطبيعية، وإن دقَّ خاطبٌ يومًا باب داركِ فلا ترفضيه، أو تزوجيه أولًا ثم أخبريه لاحقًا بأنكِ مريضة!".
غيّرت المحنة شخصيتها ونظرتها للحياة بأكملها، فبعد أن كانت تعتبر طلب المساعدة ضعف لأنها عصامية منذ الصغر، بدأت تسمح لعائلتها أن تساعدها وتسند ظهرها، وكان هذا بمثابة إعادة صياغة لعالمها الصغير الذي كانت تركض دومًا بحثًا عنه؛ فاهتمّت بنفسها وعائلتها وتقبّلت مرضها بشكل كامل ولم تجزع، ووازنت بين حالتها النفسية والذهنية؛ فالتصلّب المتعدد يتأثر بالألم النفسي كثيرًا بما أنه مرض يهاجم مناعة الجسم ولم يُعرف له سبب ولا علاج دقيق حتى الآن، تقول: "حينما أكون سعيدة تثقل قدمايَّ فلا يمكنني تحريكها، فمابالكِ بالحزن! يزيد الغضب ألمي أيامًا ولم أعد أريد استنفاذ طاقتي في الحزن لأنني لا أستطيع المشي، لقد غيّرتُ طريقتي في الحزن"
وبدأت تكتب! كانت هذه طريقتها المثلى لمواجهة الحزن؛ رحمة تحبُّ تأليف القصص والحكايا منذ الصغر، وكانت تحلم يومًا أن يكون لها بصمة في الكتابة.
تُعَرِّفُ عن نفسها دومًا بأنها كاتبة محتوى، فهي تكتب لذاتها ثم تشارك به المجتمع، وحينما وجدت أن لذلك صدىََ واضحًا قرّرت أن تكتب عن تجربتها بأكثر الطرق إيجابية وتنشرها في كتاب سيصدر قريبًا اختارت له مبدئيًا عنوان (عندما يهديكَ الله محنة).
ختمت رحمة حوارها مع منصة بلقيس بقولها: "كلمتي الأخيرة لكل مُبتلى: أحبب نفسك وافصلها عن جسدك بما فيه من عيبٍ أو مرض، أُكتب دومًا أسباب امتنانك ونِعَمِك، واستمع لقلبك ولا تصغي للناس فلا أحد يعلم كم قاومتَ ولا كيف تقاتل، واختر دائرتك الخاصة وعُد لها في ضعفك".